ما زال أهم ما في التحليل التفصيلي التابع للمشروع بعد ظهوره في أوائل عام 2004، أنه بغض النظر عن أن جزءً منه قد عفا عليه الزمن، إلا أن معظمه يبقى وثيق الصلة بواقع اليوم، لا سيما فيما يتعلق بعدم الاهتمام الرسمي (وربما أقل من ذلك) بأوليات وسائل الإعلام.
لقد الاستشهاد برقم الـ10,000 قتيل المحزن، الذي وثقه المشروع، في دوائر من مختلف الانتماءات السياسية (ولكنه ليس بالضرورة مع ذكر المصدر).
وكما كان متوقعاً، أصبح هذا المعلم معلماً عابراً.
1 ذُكر في العراق يلقي بثقله في يوم ذكرى حزين ، روبرت جنسن، سان فرانسيسكو كرونيكل، 6 أغسطس/آب 2000.
5 "لا نفعل أشياء سيئة": الإنكار الرسمي للمسؤولية
5.a خلال مرحلة الحرب
طوال فترة الحرب وبشكل مستمر حاول الناطقون باسم قوات التحالف إلحاق المسؤولية عن مقتل المدنيين بصدام حسين. كان ذلك ببساطة استمراراً في تبني تكتيكات من العقد السابق، التي تسببت في وفاة مئات الآلاف أساساً بسبب عقوبات فرضتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أضيفوا إلى أولئك الذين قتلوا نتيجة القصف المنتظم، ولم تُعزَ هذه الوفيات للبلدين اللذين نفذا هذه الأعمال، وإنما لصدام حسين الذي اِتُهم بـ"تسببه في" هذه الوفيات من خلال فشله في تلبية مطالب القرارات الصادرة عن مجلس الأمن. بينما تنتهك إسرائيل حالياً العديد من قرارات مجلس الأمن، ولكن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة نادراً ما تلومان إسرائيل على سقوط آلاف القتلى الفلسطينيين (بما في ذلك المئات من الأطفال) الناجمة عن أعمال قواتها الموثقة. ففي فبراير/شباط 1999، وصف ديفيد بنيور، وهو منسق الأقلية في مجلس النواب للولايات المتحدة، العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق بأنها "وأد متنكر في السياسة." 1 وهذه السياسة كانت قد تم تشديدها إلى مستويات جديدة من الرعب متمثلة في بداية الحرب يوم 20 مارس/آذار.
عندما قصفت قوات التحالف المناطقَ المحتوية على تجمعات مدنية مكثفة، متسببة في تدمير واسع النطاق للأرواح والممتلكات، سارع الناطقون باسمها إلى إلقاء اللوم على العراقيين متهمين إياهم بتركيز جنودهم والمنشآت العسكرية في المناطق المدنية المكتظة بالسكان. ومن المؤكد أن مثل هذه التكتيكات من جانب العراقيين هي حقيرة، ولكنه تظل الحقيقة أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كانتا هما اللتين اعتديا على العراق عدواناً غير مبرر. وكانتا حرتين في أن لا تغزوا العراق، الشيء الذي حثهما عليه العالمُ كله تقريباً، ولكنهما تجنبتا هذا الخيار. وبدلاً من ذلك شنتا، وعلى نطاق واسع، حملة "الصدمة والرعب" العسكرية على العراق، وكما كان متوقعاً التجأت الحكومة العراقية، إلى استخدام وسائل دفاع عسكرية بدائية وهي الوحيدة التي كانت تحت تصرفها.
عندما تشتبك الفصائل المتحربة بعضها ببعض في المناطق المدنية تكون كل منها مسؤولة عن سقوط قتلى مدنيين (غير مقاتلين) على حد سواء وتخضع كل منها للتحقيق في ارتكاب جرائم الحرب، خاصة إذا كانت على علم بوجود مدنيين. وحتى لو وُضع المدنيين عمداً في طريق الأذى، لا يمكن أن تعود المسؤولية كلها إلى طرف واحد في الصراع فقط لأن الأمر يتطلب من أحد الأطراف استخدام "دروع بشرية" غير راغب في ذلك، كما يقتضي إطلاق النارعليها من قبل الجانب الآخر مع علمه بوجود تلك الدروع: إذن "اللوم الجزئي" يبقى "لوماً" على كل حال. وأيضاً من المشكوك فيه حقاً أنه عندما يعلن المعتدي على الملأ عن عدالة قضيته، يمكن للدول المعتدية شن حروب وإعفاء نفسها من أية مسؤولية عما يتلو ذلك من الفوضى المجازر والرعب.
لا شك أن "تحرير" الولايات المتحدة/المملكة المتحدة سبرت أعماق مروّعة كغيرها من الحروب -- على الرغم من أن أكثرها لم تغطَ في وسائل الإعلام كما تمت تغطية آلات الحرب اللامعة معروضة على شاشات التلفزيون بلا كلل، فتركت ويلات الحرب ليشغل بها خيالنا.
"الرعب الرعب،" كتب بيبي أسكوبار في آسيا تايمز "وعلى العكس من الفيلم "أبوكاليبز ناو" هنالك صور حقيقة وليست خيالية تثبت ما حدث. ولكنها لن تُشاهَد في البيوت الغربية." ها هو الحدث الذي تم تصويره من قبل المصورين ولكنها خضعت للرقابة، المشهد الذي وصفه المتحدث باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وغيرها من المنظمات، بقوله "وقطعت فيه جثث متقطعة وأطراف مبعثرة،" "وأطفال مقطوعين في النصف،" وغيرها من ويلات تكنولوجيا القنابل العنقودية التي تم استخدامها على المجتمعات الزراعية في مدينة الحلة، جنوب بغداد، وحولها… هو المشهد الذي لم يُعرض عرضاً مباشراً على الدول المسؤولة عن هذه المقبرة الجماعية. 2 لا داعٍ للقول بأن مثل هذه التغطية تعمل لصالح أولئك الذين يرغبون فقط في "التشديد على إيجابيات" الحرب "والنظر إلى الجانب المشرق" منها.
2 القنابل العنقودية تحرر أطفال العراق ، بيبي اسكوبار، آسيا تايمز أون لاين، 4 أبريل/نيسان 2003.
3 ذُكر كدليل في رفع قضية جرائم الحرب ضد اللواء الأمريكي تومي فرانكس في بلجيكا نيابة عن 19 مدنياً عراقياً، مقالة أعيد نشرها في Indymedia.be ،14 مايو/أيار 2003.
4 الدليل: وفيات السوق نتجت عن ضربة صاروخ أمريكية ، كاهال ملمو، الإندبندنت، 2 أبريل/نيسان 2003.
5 في بغداد، الدم والضمادات للأبرياء ، روبرت فيسك، الإندبندنت أون سانداي، 30 مارس/آذار 2003.
“ كان المستشفى مشهداً من الجحيم ”
قُتل ما يصل إلى 55 مدنياً في اليوم الذي ضُربت فيه سوق مزدحمة في حي الشعلة بمدينة بغداد. وكان الطبيب التابع لمنظمة ميديكل أيد فور ذا ثيرد وورلد (MATW) في مستشفى قريب بعد ساعات قليلة من وقوع الحادث. وأفاد: "كان المستشفى مشهداً من الجحيم. فوضى شاملة. وكان الدم في كل مكان. وكان المرضى يصيحون ويصرخون. ويحاول الأطباء ببطولية إنقاذ مرضاهم. وفي مستشفى واحد صغير، يحتوي فقط على 200 سرير، تم عد 55 قتيلاً، من بينهم 15 طفلاً. والصور التي التقطتها مرعبة إلى حد لا يسمح بإرسالها." وأضاف أنه "تقع السوق في واحد من أفقر أحياء بغداد وليست ثمة أهدافٌ عسكرية، ولا وحتى مبانٍ كبيرة، ضمن عدة كيلومترات." 3
أفادت كل من الحكومة الأمريكية والبريطانية -- أو بالأحرى، خمنتا – أن الانفجار قد نجم "على الأرجح" عن صاروخ عراقي قديم مضاد للطائرات. غير أنه تم العثور، حسب ما ورد في صحيفة الإندبندنت، على ما تبقى من الرقم التسلسلي للصاروخ في مكان الحادث، الذي يُحدد أنه صاروخ صُنع في ولاية تكساس من قبل شركة رايثيون، الشركة العالمية الأكثر إنتاجاً "للأسلحة الذكية" تُباع للأسطول الأمريكي. ويُعتقد أن نوع الصاروخ هو إما جهاز "هارم" (صاروخ عالي السرعة مضاد للأشعة)، أو قنبلة موجهة بالليزر ("بيفوي"). وبالرغم من أن السلطات الأمريكية اعترفت بأن واحدة من طائراتها قد أطلقت على الأقل صاروخاً واحداً في المنطقة في ذلك اليوم، زعم مسؤول أمريكي أنه كان من المحتمل أنه تم زرع شظايا في مكان الحادث من قبل مسؤولين عراقيين. 4 ومع ذلك، كشف روبرت فيسك، وهو صحفي يحظى باحترام كبير على الصعيد الدولي بسبب فضحه المجازرَ الأمريكية في كوسوفو، عن أن "القطعة المعدنية التي تحمل التأشيرات قد تم استردادها بعد دقائق فقط من انفجار الصاروخ مساء الجمعة، من قبل رجل مُسِن يقع منزله أقل من 100 ياردة من الحفرة ذات الممتدة ستة أقدام. وحتى السلطات العراقية لا تعرف عن وجودها." 5
إن رفض الولايات المتحدة تحملَ المسؤولية عن سلوكها يشكل تدهوراً إلى حضيض أخلاقي جديد، في حالة ذبح سبع نساء وأطفال على يد جنود أمريكيين في نقطة تفتيش بالقرب من النجف، يوم 31 مارس/آذار.
ورد تقرير عن الحادث في صحيفة نيويورك تايمز يوم 1 أبريل/نيسان تحت العنوان "لعدم الاستجابة للتحذير، يموت سبعة عراقيين" ما قدم الحساب التالي:
وفي بيان صدر ليلة الاثنين، أفاد الجيش في الساعة 16:30 مساء يوم الاثنين أن سيارة مدنية اقتربت من نقطة تفتيش عسكرية على طريق 9 بالقرب من مدينة النجف.
وقال الجيش إن الجنود الموجودين عند نقطة تفتيش قد أشاروا للسيارة طالبين منها الوقوف ولكن تم تجاهل اشارتهم. وبعد تجاهل الطلقات التحذيرية، أطلقوا النار على محرك السيارة، "ولكن السيارة واصلت تقدمها نحو الحاجز" على حسب ما قاله الجيش.
"وأخيراً، كملاذ أخير، أطلق الجنود النارَ على مقصورة الركاب من السيارة،" حسب البيان الصادر عن الجيش.
عن إجراء مزيد من التحقيقات، قال بيان للجيش، ثبت أن 13 من النساء والأطفال كانوا راكبين في السيارة، ويُعتقد أنها عربة كبيرة. وقُتل سبعة من ركابها، وأصيب اثنان ولم يصاب الأربعة الآخرين بالأذى.
وقال ضابط من الفرقة الثالثة - المشاة، رافضاً الكشف عن هويته، هذا الصباح "الجنود تصرفوا على النحو الملائم." 6
6 بعدم الاستجابة للتحذير، يموت سبع نساء وأطفال عراقيين ، برنارد وينروب، نيويورك تايمز، 1 أبريل/نيسان 2003.
7 يلقي مقتل المدنيين بظلاله على وحدة متوترة ، ميامي هيرالد، 1 أبريل/نيسان 2003.
8 مشهد شنيع على طريق 9 ، وليام برانيغين، واشنطن بوست، 1 أبريل/نيسان 2003.
9 وكما تمت مناقشته في " قصة رسمية مقابل حساب شاهد عيان، " FAIR.org، 4 أبريل/نيسان 2003.
لاحظ الطريقة الفجة التي تعمل قصة نيويورك تايمز وعنوانها بها لصالح المعتدين بالإيحاء أنه بعدم الاستجابة للتحذير كان النساء والأطفال هم المسؤولين عن مقتلهم. وجرى تحويل المسؤولية على شكل أكثر غرابة حتى في العنوان على نفس القصة التي ورد في صحيفة ميامي هيرالد، وهو "يلقي مقتل المدنيين بظلاله على وحدة متوترة." 7 وكأن الصحيفة تقول أن "الجنود الأبرياء يعانون من الضيق بعدما تسبب النساء والأطفال العراقيين مقتل أنفسم."
ومع ذلك، أيضاً في 1 أبريل/نيسان، نقلت صحيفة واشنطن بوست 8 عن نقيب الفرقة السادسة للجيش الأميركي، روني جونسون، صراخه عبرَ الراديو لجنوده بعد إطلاق النار:
أنتم (شتيمة) قد قتلتم عائلة لأنكم لم تطلقوا طلقة تحذيرية في وقت مبكر بما فيه الكفاية.
وأفيد أنه تم فتح تحقيق عسكري أمريكي. ومن الملفت جداً للنظر أنه في قصة لاحقة عن الهجوم صدرت اليوم التالي، 2 أبريل/نيسان، من قبل مراسل مختلف، تمت إزالة جميع المطالبات بمسؤولية الولايات المتحدة عن الحادث، لم يُقدم إلا الموقف الرسمي للحكومة الأمريكية. 9
5.a خلال الاحتلال
ينص قرار مجلس الأمن 1483 للأمم المتحدة، 18 مايو/أيار 2003، على منح حكومتي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وضعاً قانونياً مشتركاً وموحداً تحت عنوان "سلطة الاحتلال." ويدعو القرار سلطة الائتلاف المؤقتة إلى "تعزيز رفاهية الشعب العراقي من خلال إدارة فعالة للإقليم، خاصة في العمل من أجل استعادة ظروف الأمن والاستقرار..." 10
11 الاتفاقية (الرابعة) المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب. جنيف ، 12 أغسطس/آب 1949.
12 نص: المؤتمر الصحفي بين بوش وبلير ، الغارديان، 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2003.
وأكثر من ذلك فإنه "يدعو جميع الأطراف المعنيين إلى الامتثال الكامل لالتزاماتهم بموجب القانون الدولي بما في ذلك اتفاقيات جنيف لعام 1949 وقواعد لاهاي لعام 1907." كما تصرح اتفاقية جنيف الرابعة بعنوان "فيما يتعلق بحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب" وموادها ال159 بمسؤولية لسلطات الاحتلال المطلقة عن حماية الحياة والصحة وممتلكات المدنيين. 11
وبدلاً من الاعتراف الكامل بأن انعدام الأمن منذ أبريل/نيسان 2003 هو نتيجة مباشرة للغزو الطائش، وللاحتلال السيئ التخطيط لفترة ما بعد الغزو، وللرفض المبني على حكم خاطئ لتدويل قوات الاحتلال تحت سلطة الأمم المتحدة، من جانبها حاولت سلطة الائتلاف المؤقتة باستمرار تحويل المسؤولية عن استمرار مقتل المدنيين وارتفاع أعداده "للموالين لصدام" "وللعملاء الخارجيين" و"القاعدة." وقد وصل ذلك النكران للمسؤولية إلى مستويات جديدة من المهزلة في لندن يوم 20 نوفمبر عندما قال توني بلير،
دعونا نكون واضحين جداً. أمريكا لم تهاجم تنظيمَ القاعدة يوم 11 سبتمبر/أيلول بل أن القاعدة هاجمت أمريكا، ومن خلاله لم يهاجم فقط أمريكا، وإنما هاجم طريقة الحياة لجميع الناس الذين يؤمنون بالتسامح والحرية والعدالة والسلام. 12
دعونا نكون واضحين جداً في تذكير السيد بلير أن صدام حسين لم يشن هجوماً على أي من المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة يوم 19 مارس/آذار 2003، وإنما هاجمت ولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة العراق، وبذلك تحملتا المسؤولية الكاملة لكل ما تلا في ذلك البلد المنكوب. وإذا كان تنظيم القاعدة عاملاً على أرض العراق (ويبقى من الصعب إثبات ذلك بدليل ملموس) فإن هذه العمليات لم تكن ممكنة لو لا تدخل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة عسكرياً، وبدأت فقط بعد انهيار الأمن الذي خلفه التدخل.